الأوضاع السابقة وتسارع الاحداث مضافا الى ذلك التحول الدراماتيكي في الملف الفلسطيني بعد هجوم يوم السابع من أكتوبر جعل الاطروحات السابقة لحل هذه الازمة المستعصية منذ ما يزيد عن 70 عاما محل جدل وأيضا شك في إمكانية تحقيقها بما في ذلك حل الدولتين.
وهذا بالضبط ما اكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسى،خلال لقائه برئيسي وزراء بلجيكا وإسبانيا، ولأول مره يتم طرح مفاهيم جديد لحل الازمة بعيدا عن القوالب السياسية التي استنزفتها الاحداث واصبحت خارج السياق التاريخي ولا ترتبط بحجم التغيير الكبير فى موازين القوى بين الأطراف محل الصراع، لذلك جاء طرح الرئيس بدولة منزوعة السلاح ليؤكد ان هناك استعداد من الجانب الفلسطيني بشكل خاص بنبذ فكرة والبناء على المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمكن ان يحققها الطرفين الإسرائيلي والفلسطينى بعد فترة اختبار الثقة.
وما طرحه الرئيس السيسي ليس دعوة للقبول بالامر الواقع ،لكنها مجرد محاولة للتعلم من التاريخ ..
والقضية الفلسطينية ربما تعد من القضايا الأكثر تعقيدا في التاريخ الانسانى، لانه لأول مرة يتنازع شعبان على قطعة ارض واحدة ، وكل منهما يزعم انه يمتلك كل الشرعية على كل الأرض مدعوما بموروثات تاريخية وعقائدية وعرقية، هذه هي لب الازمة التي نعيشها حتى من قبل وعد بولفور الذى اخرج الازمة من الدائرة التاريخية الى الدائرة السياسية.
ومن الغباء ان نغفل المقولة المحفورة في اذهان الأجيال من ان القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة، ولا مانع من العودة بالذاكرة التاريخية لتنشيطها، ومنذ صدور القرار الدولى لسنة 1947 ، وهو قرار التقسيم الذى اعتمد على تقسيم فلسطين الى دولتين إسرائيلية وفلسطينية .. في ذلك الوقت كانت تقريبا اغلب القدس مع الفلسطينين طبقا لهذا القرار ، ووافق عليه الإسرائيليين ورفضة العرب والفلسطينيين على امل ان يتم استعادة كل الأرض! وضاعت الفرصة التاريخية الأولى.
وبقى الحال حتى جاءت حرب عام 1948 لتصبح إسرائيل دولة لها شرعية فيما بقى الفلسطينيين مجرد مجموعة من اللاجئين في انتظار تحقيق الامل الذى بدت ملامحه تضيع.
وجاءت الجولة الثانية من الصراع عام 1967بنكسة غير مسبوقة دفع ثمنها الشعب المصرى من شبابه وارضه، وأصبحت كل فلسطين تحت السيادة الإسرائيلية، وبات ان الامل في عودة فلسطين اصبح مجرد وهم.
وكانت الأولوية في مصر هي استعادة سيناء ، وهذا ما حدث في حرب 1973، وتم توقيع معاهدة السلام ، ودعا الرئيس الراحل أنور السادات الفلسطينيين للمشاركة في عملية السلام ، وكان المعروض في ذلك الوقت قد تقلص ، وأصبحت القدس مناصفة ، وفى المقابل كان هناك شبه دولة فلسطينية متصلة، وهنا تدخل المغرضون والباحثون عن دور ولعبوا على وتر العاطفة والدين ، وتم رفض المبادرة .. وضاعت من جديد فرصة تاريخية كان يمكن البناء عليها.
ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش أجواء قضية الفرص الضائعة ، وفى كل مرة تعود فيها القضية الى الصدارة يتم رفض المطروح ، حتى ادرك الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ان الفرص أصبحت تتضائل ولم يبقى الا الفتات ، وأخيرا اقتنع بقبول اتفاقية عرفت باسم غزة – اريحا يحصل بمقتضاها على مجرد اعتراف بسلطة فلسطينية غير مستقلة وأجزاء منفصلة من الاراضى الفلسطينية.
هكذا تحول ماتبقى من الحلم الى مجرد كابوس ، وفاق الجميع ذات صباح وقد ضاعت كل الفرص الجيدة التي كانوا يمنون انفسهم بها.
ما اقصده من هذا السرد التاريخي ، ان الحقوق لا تعود الا من خلال موازين القوة ، فالحق بدون قوة هو مجرد ايقونة تاريخية لا تمتلك قوة ذاتية على تحافظ بها على نفسها ، وهى دائما في حاجة الى قوى على الأرض لحمايتها وتنميتها.
حتى عندما اطلق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ما وصفه بصفقة القرن لحل القضية الفلسطينية فانها لم تأتى بجديد وربما ما زاد عليها في السابق هو تثبيت الوضع القائم في بعض تفاصيله بالنسبة للاسرائيلين الذين يسعون الى إيجاد دولتهم الدينية ، وأيضا نفس الشيء بالنسبة للفلسطينيين الذين سيكون لهم نصيب من القدس الشرقية المتمثل في قرية أبو ديس، ومازاد هو الجانب الاقتصادي الذى سيتم الاعتماد عليه كعنصر مساعد في اقناع الأطراف بقبول الصفقة.
لم ولن يذكر التاريخ ان مصر تقاعست يوما في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومنذ صدور قرار الأمم المتحدة في عام 1947 وأصبحت القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها السياسة، وقدمت فداء لها الآلاف من الشهداء والمصابين والمفقودين خلال عقود من الصراع مع إسرائيل..
علي الجانب الفلسطيني لم يكن الاشقاء هناك علي قدر المسئولية التي تحملوها، ففي كثير من الأحيان كان الامر بين الفصائل الفلسطينية التي تشكلت في الأساس لتحرير الأرض اشبه بسباق لحصد الغنائم والدعم ، وأصبحت المأساة اكبر واشمل، فلم يعد الامر يقتصر علي ضياع الأرض لكن امتد لضياع ما هو اهم واخطر مثل ضياع الهوية واتساع الفجوة بين الفصائل، وامتدت الازمة من صراع علي النفوذ والسيطرة علي المنح والمعونات الي اتهامات بالخيانة والعمالة لطرف علي حساب آخر، وهنا تحولت المأساة الي ملهاه، ووصلت الأمور الي صدام وصراع عسكري واغتيالات طالت تقريبا جميع قياداتهم العسكرية والسياسية.
في تلك الأجواء كان من السهل ان تتحول القضية بيد البعض من أبنائها الي فريسة ومصدرا للثراء، ودون الخوض في التفاصيل.. يمكن لأي قارئ للتاريخ او باحث علي شبكة الانترنت ان يجد كتبا ومجلدات ووثائق حول كيف تحولت القضية الفلسطينية من أكبر ازمة واعقد مشكلة إنسانية الي مجرد "سبوبة" بيد البعض.
اليوم يتكرر المشهد،وبرغم ماتقوم به مصر من دعم للأشقاء في غزة نجد بعض الموتورين يتخذون من مواقع التواصل الاجتماعي جبهة لخوض حرب شرسة ضد مصر بزعم عدم القيام بدورها في تقديم الدعم للشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تفتح فيه مصر حدودها ومستشفياتها لاستقبال المئات من الجرحى الفلسطينيين لعلاجهم وتقديم كل الدعم الممكن والمتاح للأشقاء.. تناسي هؤلاء المغرضين ان القضية الفلسطينية هي قضية مركزية بالنسبة لمصر وهي تبذل جهودا مضنية لوقف إطلاق النار لتجنب المزيد من العنف وحقن دماء المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يدفعون ثمن مواجهات عسكرية لا ذنب لهم فيها.
هذه حى الحلقة الجهنمية التي تسير في الازمة، وكلما تم طرح فكرة جديدة تقابل بالرفض ويتهم قائلها بالخيانية وبيع القضية.. المطلوب الان هو احداث تغيير حقيقي في الأفكار حتى نتمكن من مواكبة الواقع والتفاعل معه طبقا لموازين القوى وليس طبقا لشعارات جوفاء اضاعت القضية واستنفزتها اكثر من اعدائها.. فالحول السابقة لم تعد مجدية والان هو وقت التعقل والحكمة بيعدا عن العنتريات الفارغة التي تسببت احداها في فقد اكثر من 17 الف فلسطيني في اقل من 50 يوما نصفهم من الأطفال والنساء، اما النداء الأخير وأيضا الامل المتبقى هو التعامل مع طرح الرئيس السيسي بواقعية بعيدا عن المهاترات وجنرالات المقاهى.